منهجه الفقهي والأصولي
إنَّ عملية الاجتهاد الفقهي عملية مركبة وليست عملية بسيطة، بمعنى إن الدخول إلى العملية الاجتهادية بالمعنى العام لها يكشف عن وجود مجموعة من الأدوات والعلوم والمعارف لابد من الاستفادة منها كي يُتمكن من استنباط حكم مسألة فقهية واحدة، فحينما نريد أن نمارس عملية استنباطية نلاحظ الكثير من المسائل والمقدمات المرتبطة بهذه الأبحاث ترجع في جذورها إلى علوم أخرى،نظير: علم الرجال، وعلم الحديث، وعلم اللغة وفقهها، وعلم التفسير، وعلم الكلام،وبعض قواعد المنطق الفلسفة … وغيرها.
وفي ضوء ما تقدّم لا يمكن للمستنبط أن يستنبط نتيجة فقهية سليمة دون تضلعه واجتهاده في جميع المعارف الدينية، وإلا فسوف يضحى مقلّداً دون أدنى شك؛ وذلك لأن الفقه جزء من كلّ، فما لم تكن هناك رؤية عن الكل وهو الدين، لا يمكن أن يُفهم هذا الجزء، أو أن تُقرَّر نتيجة سليمة فيه على الإطلاق.
وعلى هذا اشترط سماحته دام ظله تقليد الأعلم، وعنى به الأقدر على الاستنباط في جميع المعارف الدينية، لا خصوص مسائل الحلال والحرام، وهو اشتراط غير بعيد عن سيرة أسلافنا العلماء؛ إذ كان جلّهم قدس الله أسرارهم مفسرين ومتكلمين وفقهاء في نفس الوقت، كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي والعلامة المجلسي وغيرهم الكثير.
ولعلغياب الرؤية الفقهية المتقدّمة هو الذي أدّى إلى إهمال الكثير من الموضوعات والأبواب المعرفية التي ينبغي على الفقيه معالجتها؛ وذلك لأن هذه الموضوعات والأبواب المعرفية تحتاج إلى اختصاصات جديدة لم نألفها داخل حوزاتنا وحواضرنا العلمية، كما هو الحال في حاجتنا إلى علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الفلك (والموضوع الأخير مما تعم البلوى فيه هذه الأيام بشكل متزايد)، وإن كان التقليد الحاكم لدينا ـ ومع الأسف الشديد ـ هو غياب هذه العلوم وعدم الاهتمام بها كما ينبغي.
ويمكننا على سبيل المثال أن نلحظ تأثيرات هذا الغياب في واحدة من أهم الظواهر العملية والعلمية في حياة اليوم، وهي عبارة عن ابتعاد الرسائل العملية وانفصالها عن الواقع العملي والاجتماعي للناس على حساب تضخم ظاهرة الاستفتاءات وأجوبتها المستقلة في كتب ومواقع الكترونية مكرّسة لهذا الجانب أو تغطية حاجات الناس المتنامية من خلال الاستفتاء المباشر من الفقيه.
على أن نشير بأن هناك بعض الاستثناءات لهذه الحالة بطبيعة الحال، كما هو الأمر بالنسبة لمحاولة (الفتاوى الواضحة)، ولكنها تبقى استثناءات طفيفة لا تحد من وجود الظاهرة العامة والغالبة التي نتحدث عنها.
كما لم يغفل المنهج الفقهي لسماحة السيد دام ظله الزمان والمكان كعنصرين أساسين في فهم النصوص الدينية وقراءتها؛ فإن الفقه كعلم عملي ـ ولا أقل في باب المعاملات بالمعنى الأعمّ منه ـ لا يمكن أن يغفل الشروط والظروف والسياقات الاجتماعية والتربوية والنفسية والسياسية وغيرها عند إصدار أحكامه، وعلى المستنبط أن يجدّ الجدّ في استخراج هذه الشروط واستنباطها؛ بغية إعطاء الحكم أو الموقف الشرعي المناسب.
وطالما توسعت دوائر البحث الفقهي وكثُرت الأسئلة والاستيضاحات حول الأفعال والمواقف، وحيث لم يكن لعلم الأصول كينونة مستقلة عن علم الفقه، بل هو علم آلي يهدف إلى وضع قواعد لعملية الاستنباط الفقهي لتنتج بشكل سليم، هذه القواعد التي لم يجمعها رباط ذاتي إلا اتحادها بالغرض، وكيف كان اتجه البحث الأصولي إلى إدخال قواعد جديدة في عملية الاستنباط الفقهي طالما اُستهلكت بعض القواعد القديمة التي كانت صالحة لاستنباط أحكام ضئيلة جداً في فترة زمنية سابقة، من هنا جاءت دعوة سماحة السيد دام ظله إلى ضرورة النهوض بأعباء البحث النقدي في داخل مؤسساتنا العلمية، وبذلك ننفض ركام التراب المعشعش في داخل أروقتنا التقليدية، لتتحوّل سمة مواقفنا من ردة فعل تنتظر أفعال الآخرين لتقوم بعملها، إلى فعل
يوصد الباب أمام جميع الإثارت غير المدلّلة، كل ذلك بغية إيجاد نُضج في العملية الاجتهادية، هذه العملية التي تفتقر في تطورها ونموها إلى روافد من جميع العلوم الأخرى للحيلولة دون جمودها وتحجّرها