النظرية التطورية
بنى هربرت سبنسر نظريته التطورية على الفرضيات العلمية التي استمدها من علم الفيزياء قانون ثبات الطاقة : أي أن هناك استمرارا لنوع معين من الطاقة الموجهة لكافة الظواهر والتي تستند إليها هذه الظواهر ولكنها بعيدة عن إدراكنا ومعرفتنا ويشير هذا القانون إلى وجود واستمرار نوع من العلة النهائية تفارق المعرفة.
قانون عدم قابلية المادة للفناء : أي أن العناصر الرئيسية للمادة والطاقة في العالم لا تخلق ولا تتحطم وتفنى ولكنها تتشكل مع الحفاظ على بقائها .
قانون استمرار الحركة أو اتصالها : أي أن هناك استمرار دائم للحركة في العالم فكل الأشياء تستمر في حركتها أي تحولها من شكل لآخر ولكنها تسير في الاتجاه الذي يتزايد فيه الجذب وتقل المقاومة .
الشكل الموحد للقانون : أي أن ذلك أنه يوجد نوع من الاطراد أو الانتظام في العلاقات بين الظواهر المحددة في العالم
كافة ظواهر الطبيعة لها معدل وإيقاع خاص للحركة والاستمرار والتطور : أي أن لكل ظاهرة نمط خاص للتحول يعتمد على طبيعة تنظيم الطاقة التي تتحكم فيها وعناصر المادة ونمط الحركة.
مفهوم سبنسر للتطور
التطور هو تكامل للمادة وتشتت مصاحب للحركة خلاله تتحول المادة من تجانس غير محدد ومفكك نسبيا إلى لا تجانس متكامل ومحدد نسبياً وتمر الحركة الباقية بتحول مواز من خلاله يعتقد سبنسر أن كافة الظواهر الطبيعية وكل العمليات النفسية والاجتماعية للخبرة الإنسانية تتحرك وتتحول من حالة البساطة إلى حالة التعقيد المنتظم , ومن حالة عدم التحديد إلى حالة التحديد الواضح , ومن حالة تكون فيها الأجزاء المختلفة المكونة لها غير متمايزة نسبياً إلى حالة ازدياد درجة التخصص حين تتسم هذه الأجزاء بتباين معقد في البناء والوظيفة وأن التطور من التجانس إلى اللا تجانس هو القانون العام للتطور سواء في النظم غير العضوية أو العضوية أو فوق العضوية الخلفية السببية لهذا الاتجاه من التطور يتمثل في قاعدة عدم استقرار المتجانس, المتجانس غير مستقر بالسليقة, وهو لا يستطيع أن يبقى أو يستمر على هذه الحال لأن القوى التي تعمل باستمرار في الأجزاء أو الأعضاء المختلفة للمتجانس تؤدي إلى تباينات تظهر في النمو في المستقبل وحالة التجانس هي حالة توازن غير مستقر فحينما يحدث تجمع لعدد كبير من الوحدات المتشابهة فإن هذه الوحدات لابد أن تغير من علاقاتها بعضها ببعض فضلاً عن أن الأجزاء المختلفة لهذا الحشد تخضع لتأثير قوى متنوعة وظروف متباينة ومن ثم تتعدل على أنحاء مختلفة وتباين القوى المؤثرة في الظواهر والوحدات يعني في الحقيقة تتعدد نتائج هذه القوى تباينها.
وقد حاول سبنسر أن يفسر التحول من حالة التجانس إلى اللامتجانس النسبي من خلال عدم استقرار الوحدات المتماثلة والمتشابهة وحينما يحدث التباين داخل وحدات تجمع معين يتطور نوع من التخصص في الأجزاء بالضرورة ويلاحظ في هذه الحالة أن الوحدات المتشابهة تستجيب للمؤثرات بصورة متماثلة على حين أن الوحدات غير المتماثلة تستجيب لنفس المؤثرات بصورة مختلفة وتكون التغيرات التي تطرأ على الظواهر تحكمها ظروف البيئة التي توجد فيها وكل ظاهرة لابد وأن تخضع للانحلال وهو عكس التطور فبينما يشير التطور إلى عملية تكامل العناصر بشكل تنظيمي محدد للنمو فالانحلال هو تفكك هذه الوحدة الكلية.
ومن وجهة نظر سبنسر أن التوافقات التي تتميز بالتوازن وعدم التوازن للقوى للبيئة الداخلية هي نتاج خالص لهذه القوى وأن حدوث التكامل أو الانحلال متوقف على نتيجة الصراع بين القوى المؤثرة في الظواهر.
تقوم نظرية سبنسر في التطور على أساس فكرتين هما:
1ـ التباين : ويقصد به الانتقال من التجانس إلى اللامتجانس وقد قرر في هذا الصدد أن في الحياة ميلاً إلى التفرد والتخصص وقد أصبح هذا التخصص هو المطلب الأول في شؤون الحياة وهو الغاية القصوى التي يصل إليها الكائن في ارتقائه. وأن هذا الارتقاء والتطور كان مصحوبا بالانتقال من التعميم غير المحدد إلى التخصص المحدد ومن التماثل إلى التباين.
2ـ التكامل : وهذه الظاهرة تسير جنبا إلى جنب مع ظاهرة التباين .بمعنى أن التفرد أو التخصص يؤدي إلى التماسك والتضامن واعتماد الأجزاء والوظائف بعضها على بعض الآخر أي أن هناك في الحياة ميل إلى التفرد والتفرد هو غاية كل ارتقاء وكل ارتقاء إنما ينطوي على الانتقال من التماثل إلى التباين أو من التجانس إلى اللامتجانس والتخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات وهذا القانون قائم على دعامتين:
كلما ازداد المركب الحيوي تعقيدا ازداد اختصاصا وتفردا.
كلما ازدادت الأعضاء تفرداً واختصاصا ازدادت استقلالاً.
المماثلة العضوية :
المبدأ التطوري هو أساس نظرية سبنسر في علم الاجتماع والمماثلة العضوي هي مبدأ ثانوي وهي نوع من المقابلة بين المجتمع والكائن الحي لأغراض معينة وقد لاحظ أن هناك عدة أوجه من التشابه بين الكائنات الاجتماعية والكائنات العضوية واستنتج منها أن المجتمع ينتظم على نفس نسق الفرد أو على غراره تماما حتى أننا نستطيع أن ندرك ما هو أبعد من المماثلة بينهما وحينما ندرك أن المجتمع خلال مراحل النمو والنضج والهرم وأن ذلك يسير على نفس المبادئ التي تحدد التحولات التي تمر بها كل من النظم غير العضوية والعضوية ندرك مفهوم علم الاجتماع بوصفه علما وقد بلور سبنسر المماثلة بين المجتمع والكائن الحي على النحو التالي:
• كلاهما يختلف عن الظواهر غير العضوية من حيث يشهدان عملية نمو في الحجم.
• كلاهما يشهد نوعا من التباين في العناصر البنائية الداخلية ويصبح التنظيم الداخلي الكلي لهما أشد تعقيدا
• يرتبط التباين في البناء بتباين في الوظائف ذلك أن التخصص الداخلي للبناءات والوظائف يتم في وقت واحد.
• يؤكد سبنسر أن التباين في الحجم والبناء والوظيفة يؤدي إلى تغير تطوري يتميز بأنه غير تحكمي .
• يلاحظ الملاحظ أن الأجزاء الفردية المكونة لهما تستمر محافظة على وجودها.
الاختلافات بين المجتمع والكائن العضوي:
الأجزاء المكونة للكائن العضوي تكون كلا واقعيا ملموسا متكاملا وترتبط الوحدات أو الخلايا الحية معا ارتباطا وثيقا أما الأجزاء المكونة للكائن الاجتماعي فهي تكون كلا مجردا يمكن إدراكه بالعقل وتكون عناصره منفصلة ومتمايزة ويتميز الكائن العضوي بتباين الوظائف وتصبح بعض الأجزاء مركزا للشعور والتفكير وبعضها عديم الحساسية أما في الكائن الاجتماعي فلا يوجد مثل هذا التباين في الوظائف والخلايا في الجسم الحي تعمل من أجل صالح الكل في حين أنه في المجتمع يوجد الكل ويعمل من أجل صالح عناصره أو أعضائه.
الأنساق الاجتماعية
يرفض سبنسر القول بأن المجتمع لا يزيد عن مجموعة من الأفراد إذ أن طبيعة الكل متميزة تماما عن مجرد مجموعة من الأجزاء أو العناصر المكونة له طالما أن هناك علاقات دائمة بين الأجزاء المكونة لهذا الكل ويرى سبنسر أننا نستطيع أن نميز ثلاثة أنساق من بين الأجزاء المكونة للمجتمعات وكافة المجتمعات لابد أن تدخل في علاقات مع البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة بها وخلال هذا التعامل تحدث ثلاث صور أساسية للتباين وحتى يمكن تنظيم المجتمع من أجل الصراع الفعال مع البيئة لابد للجماعات المسئولة أساسا عن السلطة من أن تنفصل وتتمايز عن تلك الجماعات التي تتولى مهمة الإنتاج الاقتصادي ويتحدث سبنسر عن التباين كما لو أنه يحدث بين المسئوليات الخاصة بالأمن والحماية من الأخطار والتهديدات التي قد يتعرض لها المجتمع من الخارج وبين صناعة المجتمع داخليا وعلى أن هذين النسقين :نسق التنظيم ونسق صيانة المجتمع يرتبطان يبعضهما عن طريق شبكة قوية للاتصال وتوزيع محدد.
أستخدم سبنسر هذا النموذج للأنساق الأساسية المكونة لبناء المجتمع في إجراء دراسات مقارنة للمجتمعات خاصة وأن كافة جوانب التغير التطوري مثل النمو في الحجم والتباين البنائي الوظيفي والتحول من التجانس إلى اللامتجانس ومن اللامحدد إلى المحدد وغيرها من الجوانب لا يمكن أن تدرس إلا باستخدام هذا النموذج التحليلي.
نظرية السـكان عند هربرت سبنسر :
عارض هذا الفيلسوف و الاجتماعي البريطاني دبلداي و قد نشر كتابه (مبادئ البيولوجيا )، عام 1910 م متضمنا آراءه في السكان ، فهو يعتقد بوجود قانون طبيعي يخضع نمو السكان، فكلما تطور الكائن في سام السلسلة الحيوانية قل نسله، و كلما زاد الإنسان من جهده لإثبات ذاته و كلما أجهد فكره قل نسله.
أســـس نظريتــه
أولا : وفرة الغذاء و جودته تزيد من القدرة على التناسل و زيادة السكان.
ثانيا : هناك تنافر بين الجهد المبذول لإثبات الذات و الارتقاء بالشخصية نحو الأفضل و بين الإنجاب و التوالد ، فكلما زاد الجهد العقلي المبذول لتفوق الفرد قل إنجابه و ضعف جهده في الإنجاب و النسل.
ثالثا : كلما ارتقى الكائن الحي في سلم التطور إنجابه و انخفضت خصوبته ، فالأجسام العضوية الدنيا معرضة للهلاك و الفناء لهذا تتكاثر بأعداد كبيرة، و الأجسام العضوية العليا نصرف مقدارا كبيرا من قوتها و نشاطها الحيوي في بناء ذاتها ، فلا يبقى من قوتها إلا القليل و الذي يوجه نحو الإنجاب و النسل ، إضافة إلى أنها تستطيع المحافظة على بقائها ، لهذا كان الإنجاب و التوالد ضعيف لأنه غير مهم.
رابعا : تتأكد صحة هذه النظرية واقعيا فناء الطبقات العليا المشتغلات بأعمال ذهنية و الحاصلات على تعليم عالي ، و يحصلن تغذية جيدة و رعاية صحية إلا أن الإجهاد الذهني يؤثر في الناحية البيولوجية لهن فيضعفن عن الإنجاب و الإرضاع و قد يحدث عندهن العقم، بخلاف الفقيرات
قال سبنسر : « أما أن العقم المطلق أو النسبي يتولد في النساء عموما بسبب الإفراط في المجهود الذهني فأمر ظاهر بقدر أكبر من الوضوح ، و بينما حمية بنات الطبقة الراقية ليست بعد كما ينبغي أن تكون عليه إذا أخذنا في الاعتبار أن تغذيتهم أفضل منها في حالة بنات الطبقة الفقيرة ... فإن النقص في القدرة على التناسل في صفوفهن قد يعزى بدرجة معقولة إلى إرهاقهن لأذهانهن ... هذا التناقص في القدرة على التناسل لا يبينه ازدياد حالات العقم المطلق عندهن فحسب و لا في التوقف عند إنجاب الأطفال في سن مبكرة فحسب و إنما يظهر أيضا في عجز أمثال هؤلاء النسوة عن إرضاع أطفالهن » .
ما يعتقده علماء السكان منذ مالثوس أن الغذاء إذا توفر في نمو السكان غير أن سبنسر يرى أن دور الغذاء ليس رئيسيا في زيادة الإنجاب إن لم يكن سلبيا ، و لكن الأهمية للجانب الفكري فالإجهاد الفكري يقلل من الإنجاب ، و من لا يجهد فكره ينجب أكثر ، كما أن الغنى يضعف الجسم ، بما يؤثر بدوره على قلة الإنجاب.
تقييـم نظريـــة سبنسر :
1ـ إن سبنسر يسعى إلى وضع قانون طبيعي يخضع التزايد السكاني ، غير أن استخدامه للفظ الطبيعة كقوة تتدخل لتنظيم الإنجاب عند الكائن الحي ، زاد الأمر غموضا فما معنى الطبيعة هل هو قوة ذاتية في الكائن الحي أم خارجة عنه ، و هل هي مادية أم معنوية.
2ـ هناك في الواقع ما يؤيد رأيه فالإنجاب منخفض عند الأغنياء و عند ذوي التعليم العالي في المجتمعات الغربية ، إلا أن ذلك ليس بسبب انخفاض القدرة البيولوجية على النسل و لكن لظروف عملهم التي تربط الفرد خلال ساعة النهار، و تضطره إلى السهر لإنجاز ما بقي منه في البيت و التخطيط لعمل الغد ، مما يقلل من الاتصال الجنسي من جهة و استخدام وسائل منع الحمل لأن كثرة الأطفال تتطلب التفرغ لتربيتهم على حساب العمل.
3ـ لم يثبت العلم أن الغذاء الجيد أو احتواءه على البروتين يقلل من الخصوبة و الإنجاب أو يؤدي إلى العقم. فالذي أثبته العلم أن سوء التغذية هو الذي يحدث الإجهاض عند الفقراء .
4ـ يجب ألا يغيب عند سبنسر أن قلة الإنجاب عند ذوي التعليم العالي ليس بسبب الضعف الجسماني و ليس صفة ملازمة لهم، و لا للنساء ذوات التعليم العالي و المشتغلات بعقولهن ، لكن سبب انخفاض خصوبتهن يعود إلى زواجهن في سن متأخرة. بخلاف الأميات و الفقيرات غير المتعلمات فينجبن أكثر لزواجهن المبكر.
نظرية "هربرت سبنسر" في التطور الكوني العام
فقد كان سبنسر في مقدمة الدعاة إلى نظرية التطور الكوني العام ، ويرى : " أن العالم ككل ، يعبر عن عملية تطورية هائلة ، وأدوات هذه العملية إنما توجد في المادة والحركة والقوة ، وهى في ذاتها ليست حقائق نهائية ، ولكنها تمثل حدود معرفتنا التي لا تستطيع أن تتجاوز نطاق الظواهر ، ولكن في مقدورنا مع ذلك أن نستدل على ما لا يمكن معرفته وهى قوة لا تدرك ، هي مصدر الظواهر التي أهمها جميعاً ، قانون التطور ، فهو أهم القوانين وأشملها" . ولقد أغرت النظرية التطورية ، رواد الفلسفات الاجتماعية ، فاستعانوا بها في تدعيم مواقفهم السياسية ، مثال ذلك : "وليام جراهام سومنر" ، الذي كان يبرر امتياز الطبقات العليا على الطبقات الدنيا ، على أساس أن التباين هو قانون طبيعي يحفظ مبدأ بقاء الأصلح ، وقد استخدم سومنر فكرة التطور كما فعل سبنسر لكي يعارض الجهد الذي يبذل للتغير الاجتماعي ، ذاهبا إلى أن، التطور الاجتماعي يسير بطريقة الخاصة توجهه الطبيعة. وممن تأثروا بالنموذج التطوري أيضا "ماركس" و"إنجلز" و"دوركايم". ب ـ النموذج العضوي : والنموذج العضوي في النظرية الاجتماعية : يعني المماثلة بين المجتمع والكائنات العضوية ، وهو قديم قدم التفكير الاجتماعي ، فقد تحدث أفلاطون عن العناصر الثلاثة للمجتمع وهى: التفكير أو العقل ، والشعور أو الروح ، والشهوة ، وكل منها تمثل طبقة اجتماعية خاصة . وانتشرت المماثلة العضوية في الفكر السابق على "أوجست كونت" ، واستخدمها " سبنسر" و"دوركايم" وغيرهم . ج ـ النموذج الإحصائي : النموذج الإحصائي : هو عبارة عن تطبيق الوسائل الرياضية على الوقائع الإنسانية ، والوسائل الرياضية تستلزم معلومات محددة يمكن عدها وقياسها . والإحصاء معناه : أنه إذا وجدت وقائع معنية قام بقياسها عدد من الباحثين الاجتماعيين مستخدمين منهجا مشتركا موحدا ، فأنهم يصلون إلى نفس النتائج . ولا شك أن النماذج الإحصائية شأنها شان أي تصور آخر للعالم الاجتماعي من حيث التأثير على أعمال علماء الاجتماع ، فقد وجهت اهتمام عالم الاجتماع نحو تلك المشكلات التى تبدو الرياضيات ملائمة لها تماما ، وأبعدته عن تلك التى لا تصلح لهذه المعالجة . ولقد قام باستخدام النموذج الإحصائى " روبرت بيلز " و " هربرت سيمون " و " جورج هومانز " وغيرهم انظر أسس علم الاجتماع د / حسن شحاته سعفان ص117 / ط10سنة1978 م / دار النهضة العربية نظرية التطور عند مفكري الإسلام د/محفوظ علي عزام ص / 193 ط2 سنة 1986م/ دارالهداية انظر مقدمة في علم الاجتماع إليكس إنكلز ترجمة د/ محمد الجوهري وآخرون ص81/ ط3 سنة 1987م / دار المعارف انظر في ذلك أسس
تقييم النظرية
البقاء للأقوى يُقصد بها البقاء للأنسب والأصلح , وليس المعنى مرتبطاً بالقوة المادية , وإلا لكانت الديناصورات تعيش بيننا الآن لأنه ببساطة لا نوع أقوى من نوعها ! المقصود بالبقاء للأصلح : أي نجاة الكائن عطفاً على مقدرته في التكيف مع بيئته . وقد عمد هربرت سبنسر لنشر المبدأ الداروينية وتطبيقه على جميع المعارف الإنسانية , وبذل في ذلك جهداً عظيماً وجباراً , مع أن سبنسر لم يتعلم في صباه تعليماً نظامياً كما هو الحال مع معاصره جون ستيوارت , إنما استغل خبرته الميدانية في الهندسة التخطيطية وقام بربط الوقائع الطبيعية ببعضها كما يربط المهندس الطرق والمواصلات يبعضها أيضاً ! وهذا ما جعل من سبنسر واحداً من أهم فلاسفة القرن التاسع عشر , وقد نوَّه ويل ديورانت إلى جذور أفكار سبنسر , وأنها ليست كلها داروينية محضة بل تأثر هذا الفيلسوف بأفكار الفرنسي لامارك وهو الآخر من دعاة مبدأ البقاء للأفضل .
إذا كانت فلسفة الطبيعة - منذ القدم - قد ولدت علوما بمناهج شتى ، فإن من ميزات الفلسفة العلمية أنها تأخذ نتائج تجربة علمية أو نتائج نظرية علمية ، وتستند عليها مستنبطة منها أفكارا أخرى وهذه الأفكار قد تقود لرؤية تجريدية أو اتجاه فلسفي وهذا ما فعله سبنسر بأن أخذ نتائج نظرية دارون وانطلق في اتجاه آخر .
والفرق بين النظرية العلمية نفسها وبين ما يتم تأسيسه فلسفيا هو أن الاتجاه الفلسفي يأخذ نتائج هذه النظرية ليس على وجه التفصيل داخل النظرية ، وإنما يأخذها من باب استثمارها فكريا وإخضاع تلك النتائج ثانية للعقل بهدف تأسيس معرفي قد يحمل أبعادا أخرى : نفسية أو اجتماعية أو تجريدية أو منطقية ، وربما يحمل هذا التأسيس فكرا نقديا أثناء التعامل مع ما أفرز من نتائج.
وتظل الفلسفية العلمية قابلة للتطور أكثر من النتيجة العلمية والتي قد تكون علمية في وقتها حتى تأتي تجارب ونظريات بعدها تعدلها أو تنفيها أو تحددها بتطبيقات معينة ، وهذا ما حصل فعلا لنظرية دارون ، فقد أتت نظريات علمية بعدها أما بالتعديل أحيانا وبالنفي أحيانا أخرى حتى أصبحت نظرية دارون تاريخا علميا يستفاد فقط من جزء من منهجها وليس من صحة نتائجها ، بينما نجد أفكار سبنسر وفلسفته قابلة للتطور باستمرار وربما أخذت من نتائج نظريات علمية أخرى ، وأنا هنا أتحدث عن الفرق بين النظرية العلمية وبين الفلسفة العلمية ولا أعني بالطبع - من وجهة نظري - أن جميع ماسجله سبنسر صحيحا أو يعد مرجعا ثابتا ، وبرغم ذلك يظل فكر سبنسر أكثر إفادة للبشرية من تجارب دارون .
علم الفيزياء.. يهدم نظرية التطور
هناك قناعة بدأت تنتشر بين أوساط بعض المتعلمين المسلمين، وهي أن نظرية التطور قد دحضت تماما، وأنها لم تعد مشكلة فكرية. والحقيقة أن هذه القناعة ليست في محلها؛ فما زالت جميع مناهج البيولوجيا في المدارس الثانوية، وجميع مناهج البيولوجيا والجيولوجيا في جميع الكليات في العالم، وفي الدول العربية والإسلامية -عدا استثناءات قليلة جدا- تستند إلى هذه النظرية، وما زالت معظم المجلات والكتب العلمية في الغرب -التي نحن عالة عليها- تقف إلى جانب هذه النظرية.
وأخشى أن يكون الكسل والشلل العلمي عندنا هو مبعث هذه القناعة؛ لأنها تريحنا من بذل أي جهد علمي.. فلماذا نبذل مثل هذا الجهد إن كانت هذه النظرية قد ماتت ودُفنت؟!
ورغم أن هذا لا يعني أن هذه النظرية ليست في عهد التدهور، فإن الحقيقة أن كثيرًا من الحقائق العلمية التي اكتشفها العلم أخيرا تنقضها.. إلا أنه لم تكتب في العالم العربي كتب علمية جيدة في تفنيد هذه النظرية؛ فمعظم الكتب التي تناولت هذه النظرية بالنقد كتب إنشائية وبعيدة عن المنهج العلمي المطلوب؛ لذا فعلينا ألا نستخف بخطر نظرية التطور طالما أننا لم نستطع تفنيدها علميا كما ينبغي، ولم نستطع -حسب علمي- في جميع البلدان العربية وضع مناهج دراسية بديلة في مدارسنا.
مواقف متناقضة من هذه النظرية
للمفكرين والعلماء على مستوى العالم موقفان متضادان من هذه النظرية؛ فالبعض يقبل والبعض يرد.
أما الذين يقبلون هذه النظرية فينقسمون لقسمين:
قسم يقبل هذه النظرية على أساس أن الصدف العشوائية نجحت في تكوين الخلية الأولى الحية، ثم بدأت آلية التطور بالعمل، ويندرج معظم علماء التطور والفلاسفة والمفكرين الملحدين في هذا القسم، حيث لا محل هنا للخالق.
أما القسم الآخر -وهم فئة قليلة من علماء التطور والمفكرين والفلاسفة- فيرون أن التطور هو أسلوب الخلق لدى الخالق؛ أي أن الله –تعالى- هو الذي وضع قوانين التطور وآلياته، وهو الذي يوجه هذا التطور في جميع المخلوقات. فكما يوجه تطور الجنين في رحم الأم كذلك يطور مخلوقاته حسب قوانين دقيقة موضوعة من قِبله، ويدعي هؤلاء أن الإيمان بالتطور -على هذا النحو- لا يصادم الإيمان بالله ولا ينفيه، ولكن الأمر الذي ينسونه أن هذه النظرية ليست صحيحة من الناحية العلمية، كما سنبرهن لاحقا.
النقاشات حامية في أمريكا
عُقدت في السنوات العشرة الأخيرة فقط ما يزيد على مائتي مناظرة في الجامعات وفي محطات التلفزيون الأمريكية بين أنصار التطور Evolution وأنصار الخلقCreation ، وسُجلت هذه المناظرات على أشرطة الفيديو كما طُبعت أيضا، وكانت مفاجأة للكثيرين عندما فاز أنصار "الخلق" في جميع هذه المناظرات تقريبا؛ فالأدلة العلمية ضد فرضية التطور كثيرة وعديدة، إلا أن أهم دليل علمي شهروه في وجه التطوريين هو قانون من أهم القوانين الفيزيائية، وهو القانون العام للحركة؛ فكان الفيصل الحاسم في مجرى المناظرات.
علم الفيزياء.. ينقض نظرية التطور
أهم سمة في هذا الكون وفي دنيانا الزاخرة بالحياة هي سمة الحركة والتغير، فكل شيء اعتبارا من أجزاء الذرة وانتهاء بالمجرات في حركة دائبة وفي تغير وتفاعل وتبدل مستمرين، وتختلف وجهة نظر فرضية التطور عن وجهة نظر علم الفيزياء في القانون العام لهذه الحركة اختلافا كبيرا، بل هما على طرفي نقيض تماما.
وجهة نظر فرضية التطور
تقول فرضية التطور: إن الكون كان في حالة بدائية -حالة سديم وغازات حسب النظريات القديمة، أو في حالة "حساء كوني" حسب أهم نظرية حديثة، وهي نظرية الانفجار الكبير BIG BANG -، وبعد انفجار كبير حدث في هذا الحساء الكوني (الذي هو خليط من المادة والطاقة) المتركز بشكل كرة صغيرة كثيفة جدا تشكلت أجزاء الذرة أولا، ثم الذرات، ثم الجزيئات، وبمرور الزمن تحولت تلك الوحدات إلى حالة مركبة ومعقدة من جهة وإلى نظام دقيق كل الدقة؛ أي تحول الكون من الفوضى إلى النظام، ومن البساطة إلى تركيب معقد، وذلك بفعل المصادفات العشوائية ضمن بلايين السنين من عمر الكون.
فالتطور من وجهة نظرهم لا يعني تطور الإنسان وجميع المخلوقات الأخرى من كائن ذي خلية واحدة؛ إنما يعني شيئا أشمل من هذا بكثير؛ فهو يعني تطور الكون منذ نشأته وحتى وصوله إلى وضعه المعقد والمنظم جدا، وأن التطور قطع شوطا كبيرا في كوكبنا بنشوء الحياة وظهورها، ثم سارت هذه الحياة في درب التطور حتى ذروته بظهور الإنسان والمخ الإنساني الذي هو في ذروة التطور والتعقيد.
ولكن لعلم الفيزياء نظرة أخرى معاكسة تماما لهذه النظرة:
فالقانون الأول والثاني للديناميكا الحرارية -التي تعد أشمل قانون في الكون، إذ لم يعد هناك شيء خارج نطاقها- ينصان على أنه "لا يمكن خلق ولا إفناء المادة أو الطاقة، ولكن يمكن تحويلهما من شكل إلى آخر"، كما أنه "لا توجد هناك عمليات تحول في الطاقة دون أن يتحول جزء من الطاقة إلى شكل لا يمكن الاستفادة منه"، أي لا بد من ضياع جزء من هذه الطاقة.
ويقول العالم الفيزيائي الأمريكي ( ف. بوش) في كتابه (أساسيات الفيزياء)
علق بعضهم ذات مرة على الكون، فقال: الأحوال تسير من حسن إلى سيئ ثم إلى الأسوأ. وهذا يلخص القانون الثاني للديناميكا الحرارية بشكل فج جدا، وكما رأينا فإن القانون الأول هو صيغة لبقاء الطاقة، ولكنه لا يذكر أي شيء عن طريقة سير الحوادث في الكون؛ فللطبيعة اتجاه مفضل لسير الأحداث التلقائية ويحدد هذا الاتجاه بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية.
إن الأحداث التلقائية تسير في اتجاه واحد ولا يمكن عكسها؛ فان فتحت مثلا زجاجة عطر في غرفة انتشرت جزيئات المادة العطرة في جو الغرفة، ولكن لا يمكن توقع رجوع هذه الجزيئات ودخولها جميعا إلى الزجاجة مرة ثانية تلقائيا، كما أن الشمس والنجوم الأخرى تحترق وتبعث بكميات هائلة من الطاقة الحرارية والإشعاعية والضوئية إلى أغوار الكون، ولكن لا يمكن توقع رجوع هذه الطاقات الهائلة إلى الشمس وإلى النجوم الأخرى بحركة تلقائية، وهكذا فكل شيء يسير في اتجاه واحد نحو البلى والتحلل والفساد.
ولكي يستطيع العلماء شرح مفهوم النظام أو الفوضى في الكون أو في أي منظومة (system ) استعانوا بمصطلح الإنتروبيا Entropy ؛ فالإنتروبيا تشير إلى مقدار الفوضى، أي إلى مقدار الطاقة التي لا يمكن الاستفادة منها. لذا يعرّف القانون الثاني للديناميكا الحرارية بأنه "قانون زيادة الإنتروبيا"؛ حيث يؤكد هذا القانون على أن جميع التغيرات والتبدلات الحادثة والجارية في الكون تسير نحو زيادة "الإنتروبيا".. أي نحو زيادة الفوضى ونحو زيادة التحلل والتفكك.. أي أن الكون يسير نحو الموت، والفيزيائيون يقولون: "إن الكون يسير نحو الموت الحراري". ذلك لأن انتقال الحرارة من الأجسام الحارة (من النجوم) إلى الأجسام الباردة (الكواكب والغبار الكوني مثلا) سيتوقف يوما ما عندما تتساوى حرارة جميع الأجرام والأجسام في الكون.. في هذه الحالة يتوقف انتقال الحرارة بين الأجسام؛ أي تتوقف الفعاليات بأجمعها.. وهذا معناه موت الكون.
إذن فهناك تناقض تام بين النظرتين: تقول فرضية التطور بأن التغيرات والتبدلات الحاصلة في الكون تؤدي إلى زيادة التعقيد وإلى زيادة النظام، أي هناك تطور متصاعد إلى أعلى بوتيرة مستمرة. أما علم الفيزياء فيقول بأن جميع التغيرات والتبدلات الجارية في الكون تؤدي إلى زيادة "الإنتروبيا"؛ أي إلى زيادة الفوضى والتحلل والتفكك.. أي يسير إلى الموت، وأنه لا توجد أي عملية تلقائية تؤدي إلى زيادة النظام وإلى زيادة التعقيد والتركيب.
ويتبين من هذا أن الزمن عامل هدم وليس عامل بناء، مع أن جميع التطوريين يلجئون إلى الزمن لتفسير جميع الاعتراضات والمصاعب التي تواجه فرضية التطور، فعندما تستبعد قيام المصادفات العمياء بإنتاج كل هذا النظام والتعقيد والجمال الذي يحفل به الكون يقولون لك: "ولكن هذا الأمر لم يحصل خلال مليون سنة، بل خلال مئات بل آلاف الملايين من السنوات.." كأنهم عندما يذكرون شريطا طويلا من الزمن يحسبون أنهم يحلون بذلك جميع المصاعب ويقدمون حلا لجميع المعجزات التي يحفل بها الكون.
إذن ففرضية التطور تصادم العلم في صميمه؛ إذ لا يمكن حدوث أي تطور نحو الأفضل تلقائيا في عالم يسير في جميع فعالياته وحركاته وتبدلانه نحو التفكك والانحلال؛ إذن فالتطور مستحيل من الناحية العلمية.. {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء